أجرى المقابلة رئيس تحرير “زمانكم” أحمد أبوخليل
عندما تكون السياسة والعمل الشعبي مدار الحديث، ويصادف وجود واحد من أبناء مدينة الرمثا، فإن القصة الأولى التي تتبادر إلى ذهن المتحدثين هي قصة “جمهورية الرمثا ونقل الحدود”، فرغم مرور أكثر من نصف قرن على الحدث، ما تزال تلك القصة حاضرة:
أنت رمثاوي؟ إذن أنتم الذين نقلتم الحدود! وعملتم جمهورية؟
أصغر جمهورية
تعود القصة إلى فترة الاحتجاجات على “حلف بغداد” (55/1956) حيث كان التوجه الرسمي يسير نحو الإنضمام إليه، لكن احتجاجات واسعة انطلقت في كل المدن والقرى الأردنية آنذاك واستمرت إلى أن أعلن عن التراجع عن فكرة الإنضمام.
ومن الطريف –ولكنه مليء بالدلالات- أنه في عام 1986، وعندما أفرجت الحكومة البريطانية عن أرشيفها كما جرت العادة بعد مرور ثلاثين عاماً، كشفت إحدى الوثائق أن وزير خارجية بريطانيا في ذلك الحين “تمبلر”، كان قد ألقى خطبة في مجلس العموم البريطاني، أشار فيها إلى حادثة الجمهورية ونقل الحدود في الرمثا، وتحدث عن “خطورة إعلان جزء من شمال الأردن انسلاخه عن البلد”.
ولم يكن الأمر في الرمثا استثناءً، فالاحتجاجات كانت شاملة، كما لم تكن احتجاجات الرمثا لتحظى بذلك الحضور الحي في الذاكرة، لولا أن المدينة -البلدة الزراعية في ذلك الحين- صبغت احتجاجاتها بطابعها الخاص كبلدة حدودية تشعر بمقدار من التحرر من سطوة المركز، وأنها على مدار السنين أخضعت العمل السياسي والشعبي عموماً، لمقاييسها ولطابعها التهكمي الذي يميّزها.
يدعي بعض المواطنين أنهم ولعدة مرات، سمعوا في البرنامج الشهير الذي كانت تبثه إذاعة لندن بعنوان: “السياسة بين السائل والمجيب”، سؤالاً عن أصغر جمهورية، أو أقصرها عمراً، ويكون الجواب “جمهورية الرمثا” ويضيف المذيع بعض الشرح عنها.
“الهر” يتحدث
الاسم الأبرز في تلك الأحداث هو يوسف الهربيد الزعبي الملقب: “الهر”، الشاب ذو العشرين عاماً، والذي قاد كل تلك الاحتجاجات بلا منافس وباعتراف وتسليم الجميع.
التقيناه بعد هذه السنين الطويلة في منزله في الرمثا، ليروي لنا قصته وقصة الأحداث التي قادها..
“أنا الابن الثالث لفلاح من أصحاب البيادر “الدوّارة”، أي الكبيرة التي كان يتواصل العمل بها على مدار العام، وكانت طفولتي الأولى تشير إلى أنني سأكون مزارعاً، لولا أن جاء أحد الأقارب، وقد كان موظفاً، إلى الوالد وقال له: “بِدْنا أولاد للمدرسة يا ابو محمد، فالمدرسة فُتحت وما فيها أولاد”، فقال له أبي :”سنعطيك يوسف!”.
كنت حينها قد ختمت القرآن في الكُتّاب، وعندما سمعت انني سألتحق بالمدرسة، طِرتُ من الفرح، وكان يتعين على الطالب أن يحضر معه مقعده وكرسيه، فقام والدي بتجهيز “اللازم”، وصِرتُ بعد ذلك طالباً، لتبدأ مرحلة من التمرد والاحتجاج شملت كل نواحي حياتي”.
“بدا عليّ ما كانوا يسمونه “الفصاحة”، وكان المعلمون وكبار البلد عندما يصادفون والدي يقولون له: “دير بالك على يوسف.. ما شاء الله فِصِحْ”.
أول التمرد
كانت المرأة الأم في الرمثا تسأل طفلها مع بداية تعلّمه النطق سؤالاً خاصاً، وكانوا يعتقدون أنه ستتوقف على نوعية الإجابة أمور مهمة في حياة الأسرة كلها، والسؤال هو: “هل تَنْطَح ام تَعْقُط؟” ، فإذا أجاب الطفل انه “ينطح”، كان معنى ذلك أن أخاه الذي سبقه سيموت، وإذا أجاب أنه “يعقط”، فهذا يعني أن والدته لن تُخلّف بَعْدَهُ.
يقول “الهر” إن والدته أخبرته فيما بعد أنه عندما سؤل هذا السؤال، أجاب: إنه ينطح ويعقط معاً، ويضيف أنهم ظلوا يذكرونه بهذه الإجابة كلما بدرت منه حادثة تمرد، سيما وأن شقيقه الذي يكبره قد توفي بالفعل كما أن والدته لم تخلف بعده.
– وما هي قصة لقب “الهر”؟
– اللقب قديم، فقد كنت في الصف الثالث ابتدائي وكان في المدرسة معلم لغة عربية اسمه خليل عوض من قرية حوارة، وكان في الكتاب المقرر درس عنوانه “الهر” ، فقال لي المعلم: اقرأ الهر يا هر. وهنا ضحك الطلاب كثيراً وكأنهم ينتظرون هكذا تعليق، وأخذوا من يومها ينادونني: “يا هر”.
أول السياسة
– في تلك البيئة الفلاحية، متى وكيف عرفت السياسة؟
– “أول تعرفي على شؤون السياسة كانت عبر “المذياع”، الذي كان الكبار يستمعون خلاله إلى أخبار الحرب العالمية الثانية، وكنت أدُسّ نفسي بينهم دون أن أعي شيئاً مما أسمع، لكن أول حدث سياسي كبير وعيته كان نزوح الفلسطينيين إلى الرمثا عام 1948.
كان المعلمون مصدر الاستنارة الأساسي، ومع بداية الخمسينات بدأت لهجتهم معنا تتغير، بعد أن أصبحنا في سن يمكننا من استيعاب شؤون الدنيا والأحداث من حولنا، وصرت أسمع أن هناك حزبيّين من الناس الذين يكبرونني عمراً.
بدأت أسماء الأحزاب تتردد؛ الشيوعي والبعث والتحرير والإخوان، وقد استهوتني جميع الأحزاب، وحضرت اجتماعاتهم كلهم، وقد مرّت عليّ فترة كان كل حزب يحسبني معه، ولم أكن أمانع، وذات يوم دعاني الشيخ عبد العزيز الخياط الذي كان معلماً في الرمثا إلى اجتماع ليلي لحزب التحرير، عقده في بيت من بيوت قرية “البارحة” غرب إربد، وقد صعدنا إلى مكان الاجتماع على الطابق الثاني عبر درج خارجي بلا حماية على جوانبه، وعندما غادرت الاجتماع، خرجت مسرعاً فوقعت على الأرض من الطابق العلوي، ونقلوني إلى المستشفى، وقد زارني ممثلون عن كل الأحزاب، كل يعتبرني من حزبه.
اما الحزب الشيوعي الأردني، فقد تعرفت عليه من خلال قريبي احمد الجبر الخديوي الذي كان قد تعرّف إلى شيوعي معروف في اربد آنذاك إسمه أسد محمد قاسم، لكن أول الأحاديث عن الشيوعية كان من خلال مدرس في المدرسة اسمه كامل فضا.
التحزب قيمة اجتماعية اضافية
– وكيف كان وضع الأحزاب والحزبيين؟
– كانت فكرة “الحزبية” جذابة جداً، ولم يكن هنا شعور بخطورتها، وكان التحزّب يضيف لصاحبه مركزاً اجتماعياً مرموقاً، وحتى الحزب الشيوعي آنذاك لم يكن الانضمام إليه يثير الأسئلة التي أصبحت تثار فيما بعد، ولم تكن الدعاية المضادة للشيوعية والمتعلقة بجوانب الدين والسلوك قد بدأت.
كان التنافس يشتد بين الأحزاب، وكانت هذه الأحزاب تمارس ما كانت تسميه” تَشْليح” بعضها الأعضاءَ الحزبيين، فعندما كان يتم إقناع عضو حزب معين بالانتقال إلى حزب آخر، كان يقال: “شَلّحْناهم” عضو.
أول اعتقال سياسي في الرمثا
ذات يوم في عام 1955 داهمت قوة من الأمن بيتي وألقوا القبض عليّ وحولوني إلى المحكمة بتهمة “الإخلال بالأمن”، وكنت لأول مرة أسمع هاتين الكلمتين معاً، وحينها لم أفهم معناهما، ولكن الحزب كلّف بعض المحامين للدفاع عني، وخرجت من سجن إربد بعد أن أمضيت فيه حوالي شهر، وكانت هذه أول حادثة اعتقال سياسي في الرمثا، وهي التي كشفت بشكل نهائي علاقتي بالحزب الشيوعي تحديداً.
لغاية هذا التاريخ لم نكن نقوم بالمظاهرات في الرمثا، وكنا نشارك بما يجري في مدينة إربد وذلك بتوجيه من الحزب، وكنت ألقي الكلمات نيابة عن منطقة الرمثا، وكانت أغلب المظاهرات حول قضايا سياسية، وأذكر ذات يوم أننا سرنا نهتف:
احنا نحيي بوخارست
وبوخارست تحيينا
أول المظاهرات في الرمثا
ولكن موضوع حلف بغداد غيّر التوجه، فعندها صار بمقدورنا القيام بتظاهرات “رمثاوية” خاصة.
كان الوضع السياسي يزداد غلياناً، وكان الناس يتبادلون الأخبار عن خطورة الحلف الذي سيجعل مصيرنا كمصير فلسطين، كما أنه يهدف إلى محاصرة سوريا والعراق…الخ. وعندما بدأنا تحريك المظاهرات كانت الإستجابة عالية ومفاجئة لنا.
اشترك الجميع شباباً وشيوخاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وشارك الناس من القرى القريبة من الرمثا مثل الطرة والشجرة، وسرعان ما انفلتت كل أشكال السلطة في البلد، وتعطلت المدارس والمؤسسات، وكان الناس يخرجون للتظاهر كما لو كان دواماً في وظيفة، حيث يبدأون منذ الصباح ثم يغادرون للغداء وبعده يعودون لاستئناف التظاهر من جديد.
ليس فقط السلطة هي التي فقدت حضورها، بل كذلك القيادات المحلية التقليدية، فقد اختفى أغلبهم لعدة أيام، ولم يعودوا للظهور إلا عندما جرى اتصال حكومي معهم، وقد جرت أحاديث عن أن الحكومة خاطبت وجهاء عشيرة الزعبية محتجة و”معاتبة” إياهم على كون قيادة المظاهرات “زعبية”، هذا رغم أن التحرك من الناحية الفعلية لم يكن له أي طابع عشائري نهائياً.
الجمهورية
كانت المظاهرات تجوب أنحاء البلدة، وبشكل خاص على الطريق الرئيسي الموصل إلى الحدود مع سوريا، وقد هاجم الجمهور مركز الحدود وأحرقوا مبنى الاستراحة، التي كان الناس يعرفونها باسم “الرّسْت”، كما أحرقوا أحد مشاريع ما عرف حينها بـ”النقطة الرابعة” الأمريكية الذي كان يضم ماكنات لغربلة الحبوب، وكان الناس يطلقون عليه “الغريبيلة”. وبالنتيجة لم تعد هناك نقطة حدود واختفى موظفوها ورجال الأمن فيها.
في هذه الأثناء بدأ الحديث في الرمثا عن الاستقلال والجمهورية، وتم نزع “قارمة الحدود” التي تعلن نهاية الحدود الأردنية مع سوريا.
وأول حادثة اصطدام مباشر مع السلطة، كانت عندما هاجم الناس سيارة عسكرية قيل إنها أُرسلت لجس النبض والاستكشاف، فأحرقها المتظاهرون بعد أن احتجزوا مَن فيها، وجلبوهم إليّ، لأن كل الأمور التي تحتاج لقرار كانوا يعودون بها إليّ لكي أقرر بشأنها، وأذكر ان أحد العسكر أسرع نحوي وهو يقول: “بوجهك يا زعبي”. فأمرت باطلاق سراحهم وتركهم يغادرون البلد بأمان.
احتجاز سفيري مصر وتركيا
وفي يوم آخر من أيام العصيان تلك، صادف أن مرّ سفير مصري -لم أعد أذكر إن كان سفير مصر في الأردن أو سوريا- من الرمثا متوجهاً إلى سوريا، فألقى الجمهور القبض عليه وجلبوه في سيارته، فنزل منها وصافحني وعرفني بنفسه، فقلت للناس إن هذا الرجل هو سفير مصر، الدولة التي تقف ضد حلف بغداد، وحييته وحييت مصر وقلت للناس: “كَف لمصر”.. فصفقوا له وودعناه آمناً.
لكن الصدف غير السارة قادت السفير التركي في الأردن إلى المرور من الرمثا، متوجهاً نحو سوريا، وعندما عرف الناس هويته، وقلت لهم أن تركيا من الدول التي تؤيد الحلف، وأنها أعلَنَت انضمامها اليه، هاجم الجمهور الغاضب السفيرَ وأفراد أسرته الذين كانوا برفقته، حيث تم احتجازهم إلى أن وصل الخبر إلى أحد كبار وجهاء الرمثا (ناصر الفواز)، الذي حضر وطلب مني أن يقوم بـ”تكفيل” السفير وأسرته، فوافقت على ذلك وسلمته اياه، وعلى الأغلب فإنه قام بتأمين خروجه.
مظاهرة عابرة للحدود الدولية
حصلت في تلك الأثناء مظاهرة خاصة فريدة من نوعها، حيث توجه المئات نحو مدينة درعا السورية متجاوزين الحدود، ولما وصلنا إلى مركز مدينة درعا، استوقفنا السوريون، فأبلغناهم أننا قادمون لتأييد الموقف السوري من حلف بغداد.
لم يعرف المسؤولون ماذا يفعلون بنا، فهم أمام مظاهرة عابرة للحدود لكنها مؤيدة، وأذكر أنه عندما قدم المسؤولون، وربما صحفيون كذلك، ليستفسروا منا عن الوضع في الأردن، توجهوا إلى أكبرنا حجماً وهو شخص يدعى”ابو الترك” رحمه الله، ولما سألوه ما هي حقيقة الوضع في الأردن، قال لهم: “اسكتوا.. طعّة وقايمة!”، وقد اشتهر هذا التصريح فيما بعد.
قال لنا السوريون أنهم سيتصلون بالشام لأخذ رأي الحكومة، ثم جاء من قال لنا إن مجلس الشعب انعقد وهو يحيي المتظاهرين على موقفهم ويشكرهم ويطلب منهم العودة، وأن من يشعر بخطورة على نفسه إن عاد لبلده، بمقدوره الحصول على لجوء سياسي، وقد سجل بعضنا أسماءهم كلاجئين، لكنهم عادوا في اليوم التالي، فلم يكن هناك ما يمنع ولم تكن هناك حدود أصلاً، وكل ما في الأمر أنه أعجبهم لقب “لاجئ سياسي”.
كانت الأمور تتأزم يوماً بعد يوم، وشعر الناس بالفخر وهم يسمعون اسم مدينتهم في الإذاعات، وتميزها بمستوى عالٍ من الاحتجاج، وكان ذلك يثير المزيد من الحماس، وأذكر أن طائرة هيلوكبتر شوهدت في احد الأيام تحوم فوق المتظاهرين، فبلغ حماس الناس أقصاه، وراحوا يقذفون الحجارة والأحذية تجاهها وصاروا يرفعونني إلى أعلى وأنا أتوجه بالخطاب نحو الطائرة متوعداً.
التعارك مع وفد الحكومة
بدأ الزعماء التقليديون بالتحرك، وقد وصلَنا خبر بأن الحكومة أوفدت وفداً برئاسة وزير الداخلية آنذاك فلاح المدادحة، نحو الشمال يريدون مقابلة الوجهاء لبحث الأمور، ولما وصل الوفد إلى المنطقة المسماة “المثلث” (وهي تقاطع الطريق القادم من عمان باتجاه الرمثا مع طريق المفرق- اربد)، كان فريق كبير من جمهور المظاهرات قد توجه لملاقاتهم، وقاموا بالاعتداء عليهم بطريقة لا تخلو من بعض التفكّه الذي ما يزال حديث الناس لليوم، وعاد الناس مبتهجين بما فعلوه بوفد الحكومة.
كان ذلك اليوم هو اليوم الأخير للتظاهرات، فقد تبادل الناس خبر نية الحكومة إدخال الجيش إلى الرمثا، وفي المظاهرة الأخيرة، خطبتُ في الناس، وكنت أحمل سيفاً، وقلت لهم إن المواجهة قادمة وإنهم أمام خيارين: المقاومة أو الاستسلام، كما أبلغتهم بأنني مطلوب وسوف أهرب إلى سوريا، وبالفعل نزلت عن سطح المنزل الذي كنت أقف فوقه، وغادرت البلدة باتجاه قرية الطرة متجهاً نحو الحدود السورية، فوجدت هناك جموعاً من المتظاهرين ينوون التوجه إلى الرمثا، فخطبت فيهم وأبلغتهم خبر قرب المواجهة، ورافقوني إلى الوادي الأخير الذي يفصل بين الحدود وهم يهتفون ويحيون.
سنة الحياري
استيقظ الناس على بلدتهم وقد امتلأت بالجنود، وكان يتعين على كل منزل أن يرفع راية بيضاء على سطحه، وأعلن منع التجول في كل البلدة، وجرت حملة اعتقالات واسعة اقتيد بها الناس إلى مواقع للاعتقال أعدت خصيصاً في بعض المنازل، وكان الواضح أن المقصود توجيه إهانة شاملة، والقيام بعملية تأديب جماعي للناس، وكان الناس يجبرون على إطعام عناصر الحملة والاستجابة لمطالبها، وقد تصرف هؤلاء بعنف، كما جرى فرض غرامة مالية على الناس فرداً فرداً كتعويض عن ما تم تدميره من ممتلكات.
قاد الحملة الضابط علي الحياري، الأمر الذي جعل الناس منذ ذلك الحين وللآن يسمون تلك السنة “سنة الحياري”، ويؤرخون أحداثهم بها “قبل الحياري” أو “بعد الحياري”، وإن كانوا عند الحديث من الزاوية المقابلة قد يقولون: “أيام الهر” أو “حكومة الهر”.
أمضيت عدة شهور في سوريا، جرت هناك محاولة لجلبي للأردن حيث جاء وفد من الرمثا (اثنان من الزعبية واثنان من الفلاحين) ليفاوض السلطات السورية على تسليمي، بعد أن قيل لهم إن تسليم الهر يخفف ضغط الحكومة على البلد، ولكني رفضت ورفض السوريون تسليمي.
– ومتى عدت إلى الأردن؟
– عدت ضمن قرار سياسي للأحزاب بعودة الفارين جاء إثر بعض التغيرات الداخلية، ولكني أذكر أنني نزلت من الحافلة قبل نقطة الحدود بمسافة بغرض المرور من نقطة مجاورة، لكن يبدو أن أحد الركاب أبلغ عني، وما أن اقتربت من الحدود حتى وجدت دورية أمن بانتظاري، ومباشرة حولوني للتوقيف ثم للمحاكمة، وانكرت تهمة الشيوعية، لكن مع ذلك حوكمت بالنفي إلى جرش لمدة سنة، وهناك أكملت دراستي في السنة النهائية (الثاني ثانوي)، وهي التوجيهي آنذاك.
وأثناء سنة النفي تم حل البرلمان، وإقالة حكومة النابلسي، وشُنّت حملة الاعتقالات الشهيرة في صفوف الأحزاب، ولم تشملني الحملة في بدايتها، ولكن بعد انتهاء النفي، وبعد أن عدت للرمثا بأيام، ادّعى أحد افراد شرطة الرمثا انني أدير خلايا شيوعية، وكتب ذلك في تقرير، وتم إلقاء القبض علي وتحويلي للمحكمة التي لم تجد ذلك التقرير كافياً، فبرأتني من تهمة الشيوعية، لكنها أحالت اوراقي إلى الحاكم العسكري، الذي قرر توقيفي في سجن الجفر مع حالات أخرى كثيرة، وأمضيت حوالي أربع سنوات في ذلك السجن، انقطعت فيها كلياً عن البلد وأخبارها، وخرجت عام 1963 ضمن مجموعة من المعتقلين، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة.
يختم “الهر” حديثه بالقول: إن الأحداث حفرت عميقاً في نفوس الناس، وتركت انطباعات وذكريات مختلفة ومتناقضة أحياناً، لكن ما يزال هناك دوماً مَنْ يذكّرني بها، وبعضهم ما زال يحييني بقوله: “سقا الله ايامك”.